الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
إذا تبين بعض مـا حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفســاد، فنحن نذكر طريق زوال ذلك، ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات، وذلك ببيان الأصلين اللذين هما [السنة والجماعة] / المدلول عليهما بكتاب الله، فإنــه إذا اتبـــع كتاب الله وما تضمنه من اتباع رسوله، والاعتصام بحبله جميعًا، حصل الهدي والفلاح، وزال الضلال والشقاء. أما الأصل الأول ـ وهو الجماعة وبدأنا به لأنه أعرف عند عموم الخلق، ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنة ـ فنقول: عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات، لا في واجبات ومحرمات، فإن الرجل إذا حج متمتعًا أو مفردًا أو قارنًا كان حجه مجزئًا عند عامة علماء المسلمين، وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك، ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك، فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها، ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال. وكذلك الأذان سواء رَجع فيه أو لم يرجع، فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة، وعامة خلفها. وسواء ربّع التكبير في أوله أو ثناه. وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة، كما خالف فيه بعض الشيعة، فأوجب له الحيعلة [بحي على خير العمل] وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنيـة بأيها أقام صحـت إقامتـه عنـد عامة علماء الإسلام، إلا /ما تنازع فيه شذوذ الناس. وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة. وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما، أو يـكره الآخر، أو يختار ألا يقرأ بها، فالمنازعة بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء، فإنهم وإن تنازعوا بالجهر والمخافتة في موضعهما، هل هما واجبان أم لا؟ وفيه نزاع معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، فهذا في الجهر الطويل بالقدر الكثير، مثل المخافتة بقرآن الفجر، والجهر بقراءة صلاة الظهر. فأما الجهر بالشيء اليسير، أو المخافتة به، فمما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك. وما أعلم أحدًا قال به. فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في صلاة المخافتة يسمعهم الآية أحيانًا. وفي صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة. قال:(سمع الله لمن حمده)، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركا فيه، فلما انصرف قال:(من المتكلم؟) قال: أنا، قال: (رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول) . ومعلوم أنه لولا جهره بها، لما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا/ الراوي. ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك، وكذلك ثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك). وهذا فعله بين المهاجرين والأنصار. والسنة الراتبة فيه المخافتة، وكذلك كان من الصحابة من يجهر بالاستعاذة. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة على الجنازة، وقال: لتعلموا أنها السنة، ولهذا نظائر. وأيضًا، فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة، كابن الزبير ونحوه، ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره، وتكلم الصحابة في ذلك، ولم يبطل أحد منهم صلاة أحد في ذلك. وهذا مما لم أعلم فيه نزاعًا، وإن تنازعوا في وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى. وكذلك القنوت في الفجر إنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته، وسجود السهو لتركه أو فعله، وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت، وأنه ليس بواجب، وكذلك مـن فعله إذ هـو تطويل يسير للاعتدال، ودعاء الله في هذا. الأذان، فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم/ بأحد النوعين، صار ذلك مثل تعليمـه القـرآن لعمـر بحـرف، ولهشام بن حكيم بحـرف آخـر، وكـلاهما قـرآن أذن الله أن يقرأ به. وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة، وهو محذوف من أذان بلال الذي رووه في السنن، وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة بها صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة، وصحت المخافتة بها عن أكثرهم، وعن بعضهم الأمران جميعًا. وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي في الصحاح والسنن، يقتضي أنه لم يكن يجهر بها، كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته، ففي الصحيح حديث أنس وعائشة وأبي هريرة، يدل على ذلك دلالة بينة، لا شبهة فيها، وفي السنن أحاديث أخر: مثل حديث ابن مغفل وغيره، وليس في الصحاح والسنن حديث فيه ذكر جهره بها، والأحاديث المصرحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث، ولهذا لم يخرجوا في أمهات الدواوين منها شيئًا، ولكن في الصحاح والسنن أحاديث محتملة. وقد روي الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها إذ كان بمكة، وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتي مات. ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ، وهذا /يناسب الواقع. فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها، وأما أهل المدينة والشام والكوفة، فلم يكونوا يجهرون بها، وكذلك أكثر البصريين، وبعضهم كان يجهر بها؛ ولهذا سألوا أنسًا عن ذلك. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بعض الأحيان، أو جهرًا خفيفًا إذا كان ذلك محفوظًا، وإذا كان في نفس كتب الحديث أنه فعل هذا مرة، وهذا مرة زالت الشبهة. وأما القنوت، فأمره بيِّن لا شبهة فيه عند التأمـل التــام. فإنـــه قد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قنت في الفجر مــرة يدعــــو على رَعْل وذَكْوَان وعَصِيَّة. ثم تركه ولم يكن تركه نسخًا له؛ لأنه ثبت عنـــه في الصحاح: أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين: مثل الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، ويدعو على مُضر، وثبت عنه أنه قنت أيضا ـ في المغرب والعشاء، وسائر الصلوات قنوت استنصار. فهذا في الجملة منقول ثابت عنه، لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تركه ترك نسخ، فاعتقد أن القنوت منسوخ، واعتقد بعضهم من المكيين أنه مازال يقنت في الفجر القنوت المتنازع فيه حتي فارق الدنيا. والذي عليه أهل المعرفة بالحديث، أنه قنت لسبب، وتركه لزوال السبب. /فالقنـوت مـن السنن العوارض لا الرواتب؛ لأنه ثبت أنه تركـه لما زال العارض، ثم عـاد إليه مرة أخرى، ثم تركه لما زال العارض. وثبت في الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرًا، هكذا ثبت عن أنس وغيره، ولم ينقل أحد قط عنه أنه قنت القنوت المتنازع فيه، لا قبل الركوع ولا بعده، ولا في كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك، بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر، وأبي مالك الأشجعي وغيرهما. ومن المعلوم - قطعًا - أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان كل يوم يقنت قنوتا يجهر به، لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة، فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت العارض، وقنوت الوتر، فالقنوت الراتب أولي أن ينقل دعاؤه فيه. فإذا كان الذي نستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر، علم أنه ليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يعلم باليقين القطعي، كما يعلم عدم النص على هذا وأمثاله، فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نقل ذلك. فإنه مما يعلم بطلانه قطعًا. وكذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر، وعلي، وغيرهما هو القنوت العارض، قنوت النوازل، ودعاء عمر فيه، وهو قوله:(اللهم عذِّب كفرة أهل الكتاب) إلخ. يقتضي أنه دعا به عند قتله للنصاري، وكذلك دعاء على عند قتاله لبعض أهل القبلة. والحديث الذي فيه عن/أنس: أنه لم يزل يقنت حتي فارق الدنيا مع ضعف في إسناده، وأنه ليس في السنن، إنما فيه القنوت قبل الركوع. وفي الصحاح عن أنس أنه قال: لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهرًا والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل إذ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة، فتارة يكون في السجود وتارة يكون في القيام، كما قد بيناه في غير هذا الموضع. وأما حجة الوداع ـ وإن اشتبهت على كثير من الناس ـ فإنما أتوا من جهة الألفاظ المشتركة حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج. وهؤلاء ـ أيضًا ـ يقولون: إنه أفرد الحج، ويقول بعضهم: إنه قرن العمرة إلى الحج، ولا خلاف في ذلك. فإنهم لم يختلفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه، وأنه كان قد ساق الهدي ونحره يوم النحر، وأنه لم يعتمر بعد الحجة في ذلك العام، لا هو ولا أحد من أصحابه، إلا عائشة أمر أخاها أن يعمرها من التنعيم أدني الحل وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه فيها أنه لم يطف بالصفا والمروة إلا مرة واحدة، مع طوافه الأول. فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا، ل أنه أفرد أعمال الحج لم يقرن/بها عمل العمرة، كما يتوهم من يقول:إن القارن يطوف طوافين. ويسعي سعيين، ولم يتمتع تمتعًا حل به من إحرامه كما يفعله المتمتع الذي لم يسق الهدي، بل قد أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، ويهلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم . ا. هـ .
/وَقال الشيخ ـ رحمه الله : أنواع الاستفتاح للصلاة ثلاثة ـ وهي أنواع الأذكار مطلقًا بعد القرآن ـ أعلاها ما كان ثناء على الله، ويليه ما كان خبرًا من العبد عن عبادة الله، والثالث ما كان دعاء للعبد. فإن الكلام إما إخبار، وإما إنشاء، وأفضل الأخبار ما كان خبرًا عن الله. والإخبار عن الله أفضل من الخبر عن غيره، ومن الإنشاءات. ولهذا كانت ولهذا كانت الفاتحة نصفين: نصفًا ثناء، ونصفًا دعاء. والنصف /الثاني هو المقدم، وهو الذي للَّه عز وجل. وكذلك في حديث الشفاعة الصحيح قال: (فإذا رأيت ربي خررت له ساجدًا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسَلْ تُعطَه، واشفع تشفع) فبدأ بالحمد للَّه، حتي أذن له في السؤال فسأل . وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تَعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، والحمد للَّه، وسبحان الله، والله أكبر، اللهم اغفر لي. فإن دعا استجيب دعاؤه، وإن توضأ وصلي قبلت صلاته) وقال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) ولهذا كان التشهد ثناء على الله -عز وجل. وقال في آخره: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء) . والأدعية الشرعية هي بعد التشهد ولم يشرع الدعاء في القعود قبل التشهد بل قُدم الثناء على الدعاء، وفي حديث الذي دعا قبل الثناء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجل هذا). فروي الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبيد قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل علي/ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم عَجِل هذا) ، ثم دعاه فقال له - أو لغيره -:(إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه، والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد ذلك بما شاء) . والذكر المشروع باتفاق المسلمين في الركوع والسجود، والاعتدال. وأما الدعاء في الفرض ففي كراهيته نزاع، وإن كان الصحيح أنه لا يكره ولكن الذكر أفضل، فإن الذكر مـأمور به فيهما بقوله تعالي: فأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) ، ففيه الأمر في الركوع بالتعظيم، وأمره بالدعاء في السجود بيان منه أن الدعاء في السجود أحق بالإجابة من الركوع؛ ولهذا قال: (فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم) كما قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، فهو أمر بأن يكون الدعاء في السجود. أمر بالصفة لا بالموصوف، أو أمر بالصفة والموصوف، وإن كان التسبيح أفضل، فإنه ليس من شرط المأمور ألا يكون غيره أفضل/منه؛ لأن الدعاء هو بحسب مطلوب العبد، لم يذكر دعاء معينًا أمر به كما أمر بالفاتحة، بقوله: فعلم أن الدعاء دبر الصلاة ـ لاسيما قبل السلام كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في الغالب ـ فهو أجوب سائر أحوال الصلاة؛ لأنه دعاء بعد إكمال العبادة. وأما السجود فإنما ذكره والركوع، لأنه قال: (إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا؛ أما الركوع، فعظموا فيه الرب، وأما السجود، فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) فلما نهي عن القراءة في هذين الحالين، ذكر ما يكون بدلا مشروعا لمن أراد، فخص الركوع بالتعظيم، والسجود بالدعاء. فجمع الأقسام الثلاثة: القراءة، والذكر، والدعاء. ومما يبين فضل الذكر على المسألة، ما ثبت في صحيح مسلم عن/ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن ـ :سبحان الله والحمد للَّه، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ولهذا أمر بالذكر من عجز عن القراءة في الصلاة؛ لأن الاعتدال مشروع فيه التحميد بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في كل صلاة، وكان أحيانا يدعو بعد التحميد بقوله: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) فأخر السؤال عن الحمد والثناء والمجد، وأمر ـ أيضًا ـ بالحمد بقوله: (فإذا قال:سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد) وما داوم عليه وقدمه وأمر به أفضل مما كان يفعله أحيانا، ويؤخره، ولم يأمر به. وأيضًا، فنوع الثناء أضافه الرب إلى نفسه، ونوع السؤال أضافه إلى عبده. فقال: (إذا قال العبد: وأيضًا، فجماهير العلماء على إيجاب الثناء، فيوجبون التشهد الأخير، وكذلك التشهد الأول، يجب مع الذكر عند مالك وأحمد، فإذا تركه/عمدًا، بطلت صلاته، وتسبيح الركوع والسجود كذلك ـ أيضا ـ عند أحمد وغيره، وكذلك التكبير، تكبير الانتقال، ف مذهب مالك من ترك من ذلك ثلاثًا عمدًا أعاد الصلاة، ومذهب أحمد مشهور عنه مطلقا، وما يذكره أصحاب أحمد في مسائل الخلاف أن إيجاب هذه الأذكار من مفردات أحمد عن الثلاثة فذلك لأن أصحاب مالك يسمون هذه سننا، والسنة عندهم قد تكون واجبة إذا تركها أعاد، وهذه من ذلك، فيظن من يظن أن السنة عندهم لا تكون إلا لما يجوز تركه، وليس كذلك. وأما الدعاء، فلم يجب منه دعاء مفرد أصلا، بل ما وجب من الفاتحة وجب بعد الثناء وكذلك من أوجب أن يدعو بعد التشهد بالدعاء المأمور به هناك، هو الاستعاذة من عذاب جهنم، والقبر، وفتنة المحيا والممات، والدجال. فإنما أوجبه بعد التشهد الذي هو ثناء، وهو قول طاووس ووجه في مذهب أحمد. وأيضًا، فالدعاء لم يشرع مجردًا، لم يشرع إلا مع الثناء. وأما الثناء، فقد شرع مجردًا بلا كراهة. فلو اقتصر في الاعتدال على الثناء، وفي الركوع والسجود على التسبيح، كان مشروعا بلا كراهة، ولو اقتصر في ذلك على الدعاء، لم يكن مشروعًا، وفي بطلان الصلاة نزاع. وأيضًا، فالثناء يتضمن مقصود الدعاء، كما في الحديث: (أفضل/الذكر. لا إله إلا الله. وأفضل الدعاء الحمد للَّه) فإن ثناء الداعي على المدعو بما يتضمن حصول مطلوبه، قد يكون أبلغ من ذكر المطلوب كما قيل: إذا أثني عليـك المرء يومًا ** كفاه من تعرضه الثناء ولهذا يقول في الدعاء المأثور: (أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السموات والأرض). فسأله بأن له الحمد، فعلم بأن الاعتراف بكونه مستحقًا للحمد، هو سبب في حصول المطلوب. وهذا كقول أيوب ـ عليه السلام ـ: وفي الصحيحين عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع، ورب الأرض رب العرش الكريم) . ومما يبين فضل الثناء على الدعاء، أن الثناء المشروع يستلزم الإيمان باللَّه، وأما الدعاء فقد لا يستلزمه، إذ الكفار يسألون الله /فيعطيهم، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع فإن سؤال الرزق والعافية ونحو ذلك من الأدعية المشروعة، هو مما يدعو به المؤمن والكافر؛ بخلاف الثناء كقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالي جدك، ولا إله غيرك) و(التحيات للَّه والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) فإن هذا لا يثني به إلا المؤمن، وكذلك قوله: (اللهم ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد ). لكن قد يكون بعض الثناء يقر به الكفار، كإقرارهم بأن الله خالق السموات والأرض، وأنه يجيب المضطر إذا دعاه، ونحو ذلك. لكن المشركون لم يكن لهم ثناء مشروع يثنون به على الله. حتي في تلبيتهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وكذلك النصارى ثناؤهم فيه الشرك، وأما اليهود فليس في عبادتهم ثناء، اللهم إلا ما يكون مأثورًا عن الأنبياء، وذلك من ثناء أهل الإيمان. وكذلك النصارى، إن كان عندهم شيء من ذلك. وأما ما شرعه من ثنائه، فهو يتضمن الإيمان، والأدلة الدالة على فضل جنس الثناء على جنس الدعاء كثيرة. مثل أمره أن يقال عند سماع المؤذن مثل ما يقول، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل له الوسيلة، ثم يسأل العبد بعد ذلك. فقدم الثناء علي/ الدعاء، وهكذا بعد التشهد، فإنه قدم فيه الثناء على الله، ثم الدعاء لرسوله، ثم للإنسان. وكذلك هنا مع أني لا أعلم في هذا نزاعًا بين العلماء، ولكن المفضول قد يكون أحيانا أفضل. فإن الصلاة أفضل من قراءة القرآن. والقرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء. والمفضول قد يعرض له حال يكون فيه أفضل لأسباب متعددة، إما مطلقًا كفضيلة القراءة وقت النهي على الصلاة، وإما لحال مخصوص، وهذا مبسوط في موضع آخر. والمقصود هنا أن جنس الثناء أفضل من السؤال. كما قال تعالي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) وقراءة القرآن أفضل منهما، كما في حديث الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله ـ عز وجل ـ: من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، قال الترمذي: حسن غريب. وهذا بين في الاعتبار، لأن السائل غاية مقصوده حصول مطلوبه ومراده، فهو مريد من الله، وإن كان مطلوبه محبوبًا للَّه، مثل أن يطلب منه إعانته على ذكره وشكره، وحسن عبادته، فهو يريد منه هذا الأمر المحبوب للَّه. /وأما المثني، فهو ذاكر لنفس محبوب الحق من أسمائه وصفاته فالمطلوب بهذا معرفة الله ومحبته وعبادته. وهذا مطلوب لنفسه لا لغيره، وهو الغاية التي خلق لها الخلق. كما قال تعالي: وأما الداعي، فإذا كان مهتما بما هو محتاج إليه من جلب منفعة ودفع مضرة، كحاجته إلى الرزق والنصر الضروري، كان اشتغاله بهذا نفسه صارفًا له عن غيره. فإذا دعا الله ـ سبحانه ـ فقد يحصل له بالدعاء من معرفة الله. ومحبته، والثناء عليه، والعبودية له، والافتقار إليه ما هو أفضل وأنفع من مطلوبه ذلك. كما قال بعض السلف: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة كثرت فيها قرع باب سيدك. وقال بعضهم: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فادعوه، فيفتح لي من باب معرفته ما أحب معه ألا يعجل لي قضاءها؛ لئلا ينصرف قلبي عن الدعاء. والسائل إذا حصل سؤاله برد، فإنه لم يكن مراده إلا سؤاله، وإذا حصل أعرض عن الله، فهذا حال الكفار الذين ذمهم الله في القرآن كقوله: فقوله ـ سبحانه ـ: وأما المؤمن فلابد بعد قضاء حاجته من عبادة الله وإخلاصه له كما أمره، إما قياما بالواجب فقط، فيكون من الأبرار، أو بالواجب والمستحب فيكون من المقربين. ومن ترك بعض ما أمر به بعد قضاء حاجته فهو من أهل الذنوب. وقد يكون ذلك من الشرك الأصغر الذي يبتلي به غالب الخلق. إما شركًا في الربوبية، وإما شركا في الألوهية، كما هو مبسوط في موضعه. وقد يبتلي في أماكن الجهل وزمانه كثير من الناس بما هو من الشرك الأكبر، وهم لا يعلمون. فالسائل مقصوده سؤاله. وإن حصل له ما هو محبوب الرب من إنابته إليه ومحبته وتوبته. فهذا بالعرض، وقد يدوم. والأغلب أنه لا يدوم إلا أن يكون ذلك المحبوب للرب هو سؤاله، مثل أن يسأل الله التوبة والإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته. فهنا مطلوبه محبوب للرب؛ ولهذا ذم الله من لم يطلب إلا الدنيا في قوله: وأما المثني، فنفس ثنائه محبوب للرب، وحصول مقصود السائل يحصل ضمنًا وتبعًا، فهذا أرفع. لكن هذا إنما يتم لمن يخلص إيمانه/ فصار يحب الله، ويحب حمده وثناءه وذكره. وذلك أحب إلى قلبه من مطالب السائلين رزقًا ونصرًا. وأما من كان اهتمامه بهذا أكثر، فهذا يكون انتفاعه بالدعاء أكثر وإن كان جنس الثناء أفضل. كما أن قراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء. وقد يكون بعض الناس لنقص حاله انتفاعه بالذكر والدعاء أكمل. فهو خير له بحسب حاله، لا أفضل في نفس الأمر. والمقصود هنا بيان ما شرعه الله لعباده مطلقًا عامًا. ولهذا ما كان من أذكار الصلاة من جنس الدعاء، لم يجب عند عامة العلماء. وأما الثناء كدعاء الاستفتاح وغيره، فاختلفوا في وجوبه. فذهب طائفة من أصحاب أحمد إلى وجوب الذكر الذي هو ثناء كالاستفتاح، وهو اختيار ابن بطة وغيره، وذكر هذا رواية عن أحمد. كما وجب في المشهور عنه التسبيح في الركوع والسجود والتسميع والتحميد وتكبيرة الانتقال، فهذان نوعان ظهر فضل أحدهما على الآخر. وأما النوع المتوسط بينهما، فهو إخبار الإنسان بعبادة الله تعالي، كقوله:
وسورة فهذا الذكر تضمن الأنواع الثلاثة. فـقدم ما هو خـبر عـن الله واليـوم الآخر ورسوله، ثم ذكر ما هو خبر عن توحيد العبد وإيمانــه، ثــم ختــم بالسؤال. وهذا لأن خبر الإنسان عن نفسه سلوك يشهد فيه نفسه، وتحقيق عبــادة الله عــز وجـل. وأمــا الثنـاء المحض، فهو لا يشهد فيه إلا الله عــز وجـل بأسمائه وصفاته، وما جــرد فيه ذكر الله ـ تعالي ـ أفضل مما جرد فيه الخلق ـ أيضًا. ولـهذا فضـلت سـورة وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل خطبة ليس فيها تشهد، فهي كاليد الجذماء) . والذين أوجبوا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة كأصحاب الشافعي وأحمد قال كثير منهم: يجب مع الحمد الصلاة عليه، وقال بعضهم: يجب ذكره، إما بالصلاة، وإما بالتشهد. وهو اختيار جدي أبي البركات. والصواب أن ذكره بالتشهد هو الواجب، لدلالة هذا الحديث. ولأن الشهادة إيمان به، والصلاة عليه دعاء له، وأين هذا من هذا والتشهد في الصلاة لابد فيه من الشهادة له في الأول والآخر، وأما الصلاة عليه، فشرعت مع الدعاء. وأما التشهد، فهو مشروع في الخطب والثناء. فتشهد الصلاة ثناء على الحق، شرع فيه التشهد، والخطبة خطاب مع الناس، شرع فيها التشهد، والأذان ذكر الله يقصد به الإعلام بوقت العبادة وفعلها، فشرع فيه التشهد. وأما الصلاة عليه، فإنما جاءت الآثار بأنها تكون مع الدعاء، كحديث الذي قال فيه: (عجل هذا) وأمثاله. فإن الصلاة/ عليه من جنس الدعاء، وهو أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فيكون الدعاء له مقدما على الدعاء لغيره، كما قدم السلام عليه في التشهد على السلام على غيره، حتي على المصلي نفسه، فهذا مما يبين كمال أسرار الدين فقدم في الخطب الحمد على التشهد، كما قدم في الفاتحة الحمد على التوحيد بقوله: ولهذا كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم يفتتحها بالحمد للَّه، وكذلك الصلاة إنما تفتتح بالحمد. فتفتتح بسورة الحمد عند المسلمين كلهم. إذ هي السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتفتتح بالجهر بكلمة [الحمد] عند المسلمين جمهورهم. وإذا كانت البسملة مقصودة عند جمهورهم، فهي وسيلة؛ إذ قول القارئ: بسم الله، معناه بسم الله أقرأ. أو أنا قارئ، ولهذا شرعت التسمية في افتتاح الأعمال كلها، فيسمي الله عند الأكل، والشرب، ودخول المنزل، والخروج منه، ودخول المسجد، والخروج منه، وغير ذلك من الأفعال. وهي عند الذبح من شعائر التوحيد فالصلاة والقراءة عمل من الأعمال، فافتتحت بالتسمية. /ولهذا إنما أنزلها الله في أول كل سورة، وهي من القرآن حيث كتبت كما كتبها الصحابة، لكنها آية مفردة في أول السورة، وليست من السورة، وهذا القول أعدل الأقوال الثلاثة، التي للعلماء فيها، فلما كانت تابعة ووسيلة، والحمد مقصود لنفسه، والتسمية لأجله، جهر بالمقصود وأعلن، وأخفي الوسيلة. كما هو قول جمهور العلماء، وعليه تدل الأحاديث الصحيحة. ألا تري أنه باتفاق المسلمين، وهي السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم لايجهر بها في الخطب، بل يفتتح الخطبة بالحمد، وإن لم تكن الخطبة قرآنًا. ولهذا لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث قسمة الصلاة بين العبد والرب، وخطبة الجمعة تفتتح بالحمد بالسنة المتواترة، واتفاق العلماء. وأما خطبة الاستسقاء، ففيها ثلاثة أقوال، في مذهب أحمد وغيره. أحدها: أنها تفتتح بالحمد للَّه كالجمعة. والثاني: بالتكبير كالعيد. والثالث: بالاستغفار لأنه أخص بالاستسقاء، وخطبة العيد قد ذكر عبد الله بن عقبة أنها تفتتح بالتكبير، وأخذ بذلك من أخذ/ به من الفقهاء، لكن لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبته بغير الحمد، لا خطبة عيد ولا استسقاء، ولا غير ذلك. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم). وقد كان يخطب خطب الحج، وغير خطب الحج، خطبًا عارضة. ولم ينقل أحد عنه أنه افتتح خطبة بغير الحمد، فالذي لابد منه في الخطبة: الحمد للَّه، والتشهد، والحمد يتبعه التسبيح، والتشهد يتبعه التكبير، وهذه هي الباقيات الصالحات. وقال تعالي:
|